بذرة سيئة
التاريخ: 12 يونيو 1989
إلى محرر مجلة اوستون الشهرية
عزيزي المحرر،
أدعى كارل روشيستر، أكتب إليكم طالباً عونكم بشأن مسألة قد تبدو في غاية الغرابة بالنسبة إليكم. كلي أمل أن تنشروا رسالتي المرفقة هذه في مجلتكم الرائعة. لقد عثرت على هذه الرسالة مؤخراً محفوظة بين صفحات الكتاب المقدس ضمن حاجياتي القديمة، حيث أنها ظلت هناك منذ 50 عاماً، كيف وضعت هناك؟ الله أعلم. وكما سترون، فإن الأمر يبدو في غاية الخطورة. أمر يلحق العار بي وبعائلتي، لكن رغم أن هذه المسألة ظلت في طي الكتمان طيلة هذه السنوات، إلا أنها ينبغي أن تُعلن الآن على الملأ. واليكم الرسالة:
4 فبراير 1898م
رانغفيلي، فيكتوريا
إلى من يهمه الأمر
بصفتي أنا غوردون روشيستر، أرغب في تقديم هذا الاعتراف قبل أن توافيني المنية وأنا أرقد على هذا السرير، لأنني أخشى ألا أنهض منه أبداً… وبالتالي يدفن سري معي. أقر بما سأذكره هنا وأنا في كامل قواي العقلية، وعلى الرغم من أن البعض قد يقول ما أنا إلا مجرد رجل مجنون يهزئ ويخطرف… لأنني أضع مثل هذا الاعتراف، بعد أن نجوت من العقاب طيلة هذه السنوات جزاء لما ارتكبته من جرم شنيع، إلا أن ضميري لا يسمح لي أن أذهب إلى القبر وأنا أنوء بهذا الحمل الثقيل. وكون هذا اعترافاً، فأنا أعلم علم اليقين أنكم ستصدقون ذلك رغم أن القصة مرعبة وتبدو شرّيرة. إن هذه الجريمة قد رانت بثقلها على قلبي لما يقارب الستة وثلاثين عاماً، ولم أبُح بها لأي إنسان أبداً. أسمعوني جيداً… أقسم بالله العظيم أن ما سأسرُده عليكم هو الحقيقة ولا شئ غير الحقيقة.
إنه في ليلة السابع عشر من مايو عام 1862 كنت قد قصدت ملبورن، حيث احتسيت قليلاً من الخمر في حانة مشهورة لم تعد موجود الآن. خرجت بعد ذلك أتسكع في الطرقات. لم أكن أملُك ولا شلناً واحداً، ومن أين لي بالمال وأنا عاطل عن العمل، ومستقبلي مظلم، وحيث أن الوقت كان خريفاً وكانت تلك الليلة باردة، فقد كنت في حاجة ماسّة لطعام أسد به رمقي… وإلى مأوىً دافئ أحتمي به. كنت أشعر بغضب شديد عندما كنت أسير في شارع لاتروب أندب حظي العاثر وقدري الذي جعلني لا أمُلك شيئاً من حُطام هذه الدنيا، وليس لدي أي شيء أنطلق من أجله في هذه الحياة، لا زوجة، ولا أولاد، ولا بيت، ولا وظيفة، ولا أصدقاء. كنت أشعر بالوضاعة والإحباط على سوء حظي وأنا لم أكمل بعد الثالثة والعشرين من عمري. لقد جئت إلى ملبورن أتطلع إلى حياة أفضل وعمل مستقر وربما في أحد الأيام أمتلك مزرعة متواضعة في الريف. وفجأة مرّ بي رجل نصف مخمور، يرتدي حُلة زاهية، فقررت أن أتبعه، إنها فرصة العمر ولا بد لي أن اغتنمها، هكذا حدثتني نفسي الأمارة بالسوء. وفيما أخذت أسير خلف الرجل في ذلك الشارع المظلم بدأت أفكر، لا بد أنه يحمل مالاً في جيبه، ولا شك أنه في طريقه إلى منزله الجميل، والذي توجد فيه وجبة دافئة واستقبال حار من قِبل زوجة وأولاد. إن هذا الرجل يملك كل شيء، بينما لا أملك شيئاً سوى ثيابٌ بالية خاوية الجيوب بالكاد تغطي جسدي الهزيل. عقدت العزم على سلب هذا الرجل. وقدّرت أنّ ذلك لن يؤثر عليه كثيراً ولن يسبب له أي أذيّة، فهو بلا شك يملك الكثير في حين أملك القليل… اقتربت أكثر وأكثر من الرجل، ثم هجمت عليه من الخلف. أطحت به أرضاً، وتوقعت أن المفاجأة لا بد شلته، وهو يرقد أمامي في رعب وصدمة. لكنه أخذ يقاوم بشدة، وخشيت أن تلفت الجلبة التي أخذ يحدثها الأنظار، فركلتُه وواصلت ركله بعنف حتى لفظ أنفاسه… يا إلهي لقد قتلت الرجل.
استبدّ بي الرُعب عندما أدركت فظاعة ما اغترفَته يداي من فعل آثم شنيع وجرم اقشعر له بدني. كنت قد خططت أن أسلُبه ماله فقط، وهاهو الآن يتحول إلى جثة هامدة أمام ناظري… لم تقو نفسي حتى على لمس جيبه. لطالما كنت أعتقد أن لمس رجل ميت مدعاة لجلب الحظ العاثر. لكن لاحظت أن ساعته المذهبة سقطت إلى جانبه، فالتقطتها وأطلقت ساقيّ للريح وقد امتلأت رعباً، لكن بينما كنت أجري أخذت أشعر بالغضب… قتلت الرجل من أجل ساعة يد عديمة القيمة! إنني لا أستطيع أكل الساعة، ولا أستطيع بيعها في تلك الليلة من أجل الحصول على طعام أو شراب أو مأوى. هذا إلى جانب إنني أدركت فجأة إنها قد تربطني بجريمة القتل النكراء هذه، فما كان مني إلا أن رميتها وواصلت الركض. في وقت متأخر من تلك الليلة تفضل مزارع كان يقصد مدينة غيلونغ باصطحابي معه في جراره. كان المزارع كريماً اقتسم معي بعض البطاطا المقلية. وأخبرني عن رجل كان في حاجة إلى عمال لتسوير مزرعته، فحصلت في اليوم التالي على العمل وأنا أكاد أموت تعباً وجوعاً.
انقضى أسبوع قبل أن أسمع في الأخبار عن جريمة القتل. وقرأت في الصحف أن الشرطة تمكنت من اعتقال رجل يدعى جيم هاميلتون، يُعتقد أنه القاتل. كان جيم هاميلتون هذا رجلاً فقيراً، يعمل في مزرعة صغيرة ولديه زوجة وأطفال. وقد حُدد موعد محاكمته الأسبوع القادم.
لا شك أنني أسفت لجيم هامليتون، لكن الأمر لم يشكل هاجساً كبيراً بالنسبة لي، لأنني كنت أدرك أنه برئ، ومن المؤكد إن المحكمة ستبرئه. ومن ثم ستتركه يذهب إلى حال سبيله. ولسوف يحققون معه وسيجدون أنه برئ، لأنني أقسم بالله أنه لا يوجد أي دليل ضده. فهو لا يحتاج إلا إلى شهادة مني لإنقاذه من حكم مؤكد، لكني ربما ارتكب خطئاً ما فأتورط بدلاً عنه ويُزجُ بي في السجن. لا … لا لن أفعل ذلك… لقد بدأت للتو أزاول عملاً ثابتاً وحصلت على مأوى دافئ، سيكون من العار والغباء أن أدمّر حياتي في غياهب السجون، وهي الحياة الجديدة التي ولدت للتو.
صحيح إنني شعرت بالندم والأسف لقتلي ذلك الرجل الثري، لكن مهما فعلت فأنا لن أعيده للحياة مرة أخرى، ولا يستطيع أحد غيري فعل ذلك. لذلك أبقيت فمي مغلقاً… وأخذت أترقب سير المحاكمة وما ستسفر عنه. وحسبما تناقلته الصحف فقد أخبر جيم هاميلتون البريء المحكمة أنه كان يتمشى في شارع لاتروب في وقت متأخر من تلك الليلة، فرأى ساعة يد مذهبة على قارعة الطريق، التقطها ثم واصل سيره فمر برجل مسجى على الأرض… فانحنى يتفحصه ليعرف ما إذا كان ما يزال حياً أم ميتاً، كان يريد تقديم المساعدة. كان الرجل ثقيل جداً لم يقوى على تحريكه فصاح النجدة! النجدة! هل من أحد يساعدني؟. هب إليه بعض الجيران يهرولون، وعندما جاء الشرطي وفتش جيم هاميلتون عثر على ساعة اليد المسروقة في جيبه. فاقتادوه إلى المخفر واتهموه بجريمة القتل.
توصلت المحكمة إلى أن جيم هاميلتون مذنباً وحُكم عليه بالإعدام. وفي أول يوم سمعت فيه هذه الأخبار واسيت نفسي وقلت مبرراً لست من يجب أن يثبت أن جيم هاميلتون كان بريئاً. فقد وجدته المحكمة مذنباً، لست من سينزل به العقاب، بل المحكمة هي التي ستقوم بذلك. لكني لم أتحمل مشاعر الرعب التي ملأت قلبي، رجل برئ سيُقتل من أجل جرم اغترفته أنا، يا للهول. قررت أن أتقدم للمحكمة وأقول إنني شهدت الجريمة ورأيت عصابة تقتل السيد غارنيت. وهكذا عقدت العزم للسفر إلى ملبورن لتقديم إفادتي. وعندما وصلت بلدة فوتسكراي الغربية سمعت الأخبار، فقد شنق جيم هاملتون في صبيحة ذلك اليوم، فعدت إلى البيت.
ذلك كل ما حدث قبل ست وثلاثين عاماً، ولم أخبر أحداً قط طوال تلك المدة. لا زوجتي ولا أولادي ولا القِس، فهذا السر قد بقي بيني وبين ربي. والآن هاأنذا ذاهب لمقابلة ربّي في غضون ساعات أو قُل أيام، فقد أصاب جسدي البِلى. أريد أن يعرف الناس وخاصة عائلة جيم هاميلتون أن هاميلتون كان بريئاً… وأنا من قتله. أقول قولي هذا والله شهيد على ذلك.
التوقيع: غوردون روشيستر.
سيدي المحرر، يمكنك أن تستنتج من فحوى هذا الاعتراف أن جدي يريد نشر هذا الاعتراف على الملأ. لذلك أرغب في العثور على أحفاد جيم هاميلتون محاولاً قدر المستطاع تصحيح هذا الخطأ الفادح من قِبل العدالة والاعتذار لهم. هلا تفضلتم بنشر هذه الرسالة، حتى يتسنّى لي في آخر الأمر الاتصال بأحفاده.
المخلص، كارل روشيستر.
التاريخ 2 يوليو 1989م
عزيزي كارل روشيستر
لقد اطلعنا على صورة الرسالة التي أرسلتها لنا وهي مثيرة للاهتمام، لكننا لن نتمكن من نشر هذا الاعتراف بصورته الحالية. إذ من أين لنا أن نعرف أن ما جاء في هذه الرسالة صحيح؟ وكيف نعرف أنك لم تختلق هذه القصة؟ يجب أن يكون هناك دليل داعم قبل حتى مجرد التفكير في نشرها. إضافة إلى بعض الاعتبارات الأخرى.
المخلص، جاك كومبس، المحرر
14 سبتمبر 1989م
عزيزي/ السيد جاك كومبس
بهذا أود أن أحيطكم علماً بأنني كنت مشغولاً جداً خلال الشهور القليلة الماضية. لقد بحثت بين مئات المدونات والصحف القديمة من أجل العثور على دليل يدعم الرسالة التي أمامكم، تجدون مرفقا الآتي:
1- وثيقة الاعتراف الأصلية على سرير الموت. بإمكانكم إجراء اختبار معملي عليها للتحقق من عمر الوثيقة.
2- قصاصة الصحيفة التي تبيّن التقرير الكامل لمقتل السيد غارنيت وتفاصيل محاكمة جيم هاميلتون. وستلاحظون أنّ التقرير يشير إلى زوجة وأولاد السيد جيم هاميلتون. وهذا يعني أن له أقارب.
3- تجدون أيضاً توثيقاً لعملية الشنق كما وُصفت في الصحيفة وقد نُشرت تحت عنوان: (الحشود تتدافع وتهتف لموت قاتل أثيم) وإذا تحققتم من تاريخ الصحيفة ستجدون أنها صدرت قبل مائة عام تقريباً، وأنا متأكد وأثق تماماً من أن الحبر وأسلوب الكتابة غير زائف. أرجو منكم مراجعة كل ذلك ومن ثمّ نشر هذه الرسالة لأن هذا سيزيل عني الإحساس بالخِزي الذي تلطخت به سمعة أسرتي.
المخلص، كارل روشيستر
مجلة اوستون الشهرية
29 سبتمبر 1989م
عزيزي السيد/ كارل روشيستر
لقد أولينا رسالتك الأخيرة اهتماماً بالغاً، إذ يبدو أننا حصلنا أخيراً على دليل كافٍ يمكّنُّنا من نشر اعتراف قريبك. إن خطوتنا التالية هي إرسال مراسلنا إلى مقاطعة غيلنغ للتحري عن مزيد من التفاصيل بشأن المكان الذي عاش فيه. وسيقوم مراسلنا بإجراء بعض التحقيقات عسى ولعل أن يعثر على المزيد من المعلومات عن غوردون روشيستر. إن الأمور تبدو مبشرّة، وربما سنتمكن من نشر الاعتراف في غضون شهرين.
المخلص، جاك كومبيز، المحرر
4 نوفمبر 1989
إلى جاك كومبيز
عزيزي جاك،
لقد مرّ شهران حتى الآن دون أن أتلقى أي كلمة من قبلكم. ما الذي حدث بشأن مراسلكم الذي يفترض أنه سيجري عملية التحقق؟ هل ستمضون قُدماً في عملية نشر رسالة الاعتراف؟ إنه أمر خطير وجدِّي يتعلق بحياة عدد من الناس. أرجو منكم أن تُولوه أقصى اهتمامكم.
المخلص، كارل روشيستر
إلى السيد/ كارل روشيستر
بهذا نقدِّم لك اعتذارنا العميق عن التأخير في الكتابة إليك. لقد كنا مشغولين جداً في الآونة الأخيرة. لذلك لم نستطع معالجة الموضوع حتى الآن. لقد ذهب المراسل إلى مقاطعة رانغفيلي، بالقرب من غيلونغ، وأجرى تحقيقاً مكثفاً بخصوص حياة غوردون روشيستر. ووجد أن كل الأدلة التي سبق أن قدمتها لنا حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ذلك نأسف لعدم تمكننا من المُضي قُدماً في نشر الاعتراف.
كان غوردون روشيستر رجلاً مُجدّاً في عمله. وقد وهب كل شيء لمدينته قبل وفاته. وفي الواقع هناك قدر كبير من المال ما يزال مُودعاً لصالح تمويل المنح التعليمية ومن أجل دعم الفرق الرياضية. ويتم دفع المصاريف الجامعية لعشر طلاب محليين سنوياً من ريع ممتلكاته. وتحمل قاعة المدينة اسم روشيستر، وكذلك كلية الفنون، والشارع الرئيسي يطلق عليه جادة روشيستر. وقد سُميت الحدائق العامة والقاعات العامة والنصب التذكارية باسمه تخليداً لذكراه. إن سلالة السيد روشيستر الحقيقيين يعتبرون كلهم من الرجال النيّرين والعُقلاء الأكثر نُبلاً.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد أي واحد من آل روشيستر يعيش في المقاطعة، كما تعلم، فإن الاسم روشيستر يُعد جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المدينة، وإنّ أي محاولة مهما صُغُرت لتشويه سمعته ستُعد انتهاكاً صارخاً لقدسية هذا الاسم الجليل. لقد أرسل لنا المجلس مُحذراً من مغبّة نشر هذا الاعتراف، وأنه في حالة قيامنا بنشره فإن المجلس سيقاضينا.
لذلك إلتمسنا المشورة القانونية بشأن هذا الموضوع، ونُصحنا بألا نمضي قُدماً في أمر النشر. وأُقدِّم لك أسفنا البالغ لنقل هذه الأخبار المُحزِنة إليك. إنّ هذه الجريمة وعملية الشنق التي أعقبتها حدثت قبل زمن طويل، وليس هناك خير ولا فائدة تُرجى من تقليب المواجع. لماذا لا تنسى الموضوع برمته؟ شاكرين ومقدرين أحاسيسك النبيلة والمُرهفة.
المخلص، جاك كومبيز، المحرر
21 شارع راكسين
رانغفيلي، فيكتوريا
2 ديسمبر 1989م
عزيزي الأب كابيل
أنا المدعو كارل روشيستر، لقد حاولت تتبع أثر أحفاد السيد جيم هاميلتون. وأخبرتني السيدة لورانس أن جدّك يعرف العائلة معرفة تامة على مدى سنوات عديدة. هلا تكرّمت باطلاعي على أي شيء تعرفونه عن هذه العائلة، من المهم جداً بالنسبة لي إيجاد طريقة ما للاتصال بهؤلاء الأحفاد.
المخلص، كارل روشيستر
14 يناير 1990م
عزيزي السيد روشيستر، لقد عاش وعمل كل من جدي ووالدي كقسيسين في هذه المقاطعة لفترة تسعين عاماً تقريباً. إنّ العائلة التي ذكرتها (هاميلتون) كانت معروفة جداً بالنسبة لهما. لقد بحثت في مذكرات العمل الخاصة بوالدي والتي تم حفظها عندما كان قِساً.
كانت القصة تبدو محزنة إلى حد ما. وكما تعلم فإن جيم هاميلتون كان قد شُنق بسبب جريمة قتل السيد غارنيت. لقد تربّي أولاده في جو مسمم بالشعور بالذنب والكراهية. لقد كان أهل البلدة في غاية الورع في تلك الأيام، وشعروا بأن أولاده الخمسة قد نبتوا من بذرة سيئة، وأنّ خطايا الوالد لا بد ستظلل حياة الأولاد حتى الجيل الثالث أو الرابع.
لا أحد كان يثق في الأولاد، كان الجميع يعاملونهم كمجرمين مُدانين بجريرة جريمة والدهم. وعندما كُبر الأولاد، حقّقوا ما توقعه أهل البلدة منهم، إذ بدءوا بممارسة بعض الجرائم الصغيرة، ثم انغمسوا في إدمان الخمر وممارسة العنف. وعندما بلغ كل واحد منهم العشرين، أُرسلوا الواحد تلو الآخر إلى غياهب السجون.
أما البنتان فقد بُليتا بحثالة البلدة، وانتهتا في آخر الأمر بإنجاب سلسلة من الأولاد غير الشرعيين. (يجب أن اعترف إنني لا أحب هذا الوصف، فليس الأطفال هم الغير شرعيين بل نظام الزواج في ذلك الوقت هو الغير شرعي).
وفي نهاية الأمر أصبحت البنتين عاهرتين مشهورتين، ربيتا أولادهما في جو الجريمة والسرقة والإدمان على الخمر. وكان يوصمهم سكان البلدة بأنهم: نبتوا من بذرة سيئة. في رحم عاهرتين، وجَدهما قاتل مجنون شُنق بسبب جرائمه. وهكذا تبعثرت كل العائلة في نهاية الأمر… وقد فُقد نسبهم واختلط مثل آبائهم تماماً. وكل الذي عُرف عن العائلة لم يتعد مُقتطف صغير نُشر في الصحيفة المحلية في عام 1932.
عائلة القتلة
آخر قريب معروف للقاتل جيم هاميلتون سيئ السمعة، السيد غاري هاميلتون، 43 سنة، وُجد مقتولاً في زنزانته. صرّح بذلك رقيب شرطة غودسون لصفحة أخبار الأسبوع، يُذكر أنّ غاري هاميلتون كان قد أُتهم بقتل رجل آخر بعد شجار نشب بينهما بسبب زجاجة جِعّة. كانت العائلة تعيش في المقاطعة لسنوات عديدة، واشتهر أفرادها كمجرمين خطرين وقتلة. وقد علّق واحد من المزارعين المحليين قائلاً: إن كل أفراد عائلة هاملتون سيئين. انحدروا من صلب رجل قاتل وحِشي، وتربّوا على الخطيئة، وكل واحد من الأسرة كان سيئاً. وكان أهل البلدة يتحاشونهم دائماً، ولا أعتقد إن أي شخص سيشارك في تشييع الجنازة.
25 يناير، 1990م
عزيزي جاك كومبيز، المحرر
أناشدكم إعادة النظر بشأن موضوع نشر الاعتراف حتى ولو مقالة مقتضبة عنه. أريد أن أضع الأمور في نصابها الصحيح، ليس فقط من أجل العائلة، بل من أجلنا جميعاً. أعلم أن من المستحيل تصحيح الظلم والتحامل والكُره الذي تسبّب في قدر كبير من الضرر. ما زلت أصر على الوصول إلى أحفاد جيم هاميلتون أينما كانوا. أرجوكم أنا في حاجة لمن يقوم بنشر هذه القصة في مجلة كبيرة كمجلتكم.
أريد أن يعلم أحفاده الذين ما يزالون على قيد الحياة أنهم لا يرثون الشر، حتى لا يستسلموا للانغماس في الجريمة والقنوط. أريد أن يعرف الكل أن المرء يجب أن يرضى بماضيه. لأن عائلتي لها بذرة شر لأننا لا نعلم ولأن أهل البلدة لا يعلمون أن أهل روشيستر يتصرفون كمواطنين متمدنين يحبون عمل الخير.
ويبدو لي جلياً الآن، أننا في كثير من الأحيان نكون كما يتوقع لنا الآخرون أن نكون. فتتأثر إرادتنا الحرة وتتشكل حسبما نؤمن به، بغض النظر عن إلى أي مدى يُمكن أن تكون هذه المعتقدات خاطئة.
كارل روشيستر
قصاصة صحيفة:
ملبورن، في 2 فبراير لقد تعرض السيد جاك كومبيز محرر مجلة اوستون الشهرية إلى الضرب المبرح والركل في الرأس بعد أن سقط على الأرض خارج مكتبه. وقد تمّ إبلاغ الشرطة أن مهاجمه هو السيد كارل روشيستر، يُذكر أن هذا الأخير استشاط غضباً أثناء نقاش مع المرحوم حول رفضه نشر سلسلة من الرسائل كان المتهم يطالبه بنشرها. وفي وقت لاحق من مساء ذلك اليوم، اعتقلت الشرطة كارل روشيستر، وعندما توفي جاك كومبيز في المستشفى متأثراً بجراحه، أُتُّهم كارل روشيستر بقتله.
تمت
التاريخ: 12 يونيو 1989
إلى محرر مجلة اوستون الشهرية
عزيزي المحرر،
أدعى كارل روشيستر، أكتب إليكم طالباً عونكم بشأن مسألة قد تبدو في غاية الغرابة بالنسبة إليكم. كلي أمل أن تنشروا رسالتي المرفقة هذه في مجلتكم الرائعة. لقد عثرت على هذه الرسالة مؤخراً محفوظة بين صفحات الكتاب المقدس ضمن حاجياتي القديمة، حيث أنها ظلت هناك منذ 50 عاماً، كيف وضعت هناك؟ الله أعلم. وكما سترون، فإن الأمر يبدو في غاية الخطورة. أمر يلحق العار بي وبعائلتي، لكن رغم أن هذه المسألة ظلت في طي الكتمان طيلة هذه السنوات، إلا أنها ينبغي أن تُعلن الآن على الملأ. واليكم الرسالة:
4 فبراير 1898م
رانغفيلي، فيكتوريا
إلى من يهمه الأمر
بصفتي أنا غوردون روشيستر، أرغب في تقديم هذا الاعتراف قبل أن توافيني المنية وأنا أرقد على هذا السرير، لأنني أخشى ألا أنهض منه أبداً… وبالتالي يدفن سري معي. أقر بما سأذكره هنا وأنا في كامل قواي العقلية، وعلى الرغم من أن البعض قد يقول ما أنا إلا مجرد رجل مجنون يهزئ ويخطرف… لأنني أضع مثل هذا الاعتراف، بعد أن نجوت من العقاب طيلة هذه السنوات جزاء لما ارتكبته من جرم شنيع، إلا أن ضميري لا يسمح لي أن أذهب إلى القبر وأنا أنوء بهذا الحمل الثقيل. وكون هذا اعترافاً، فأنا أعلم علم اليقين أنكم ستصدقون ذلك رغم أن القصة مرعبة وتبدو شرّيرة. إن هذه الجريمة قد رانت بثقلها على قلبي لما يقارب الستة وثلاثين عاماً، ولم أبُح بها لأي إنسان أبداً. أسمعوني جيداً… أقسم بالله العظيم أن ما سأسرُده عليكم هو الحقيقة ولا شئ غير الحقيقة.
إنه في ليلة السابع عشر من مايو عام 1862 كنت قد قصدت ملبورن، حيث احتسيت قليلاً من الخمر في حانة مشهورة لم تعد موجود الآن. خرجت بعد ذلك أتسكع في الطرقات. لم أكن أملُك ولا شلناً واحداً، ومن أين لي بالمال وأنا عاطل عن العمل، ومستقبلي مظلم، وحيث أن الوقت كان خريفاً وكانت تلك الليلة باردة، فقد كنت في حاجة ماسّة لطعام أسد به رمقي… وإلى مأوىً دافئ أحتمي به. كنت أشعر بغضب شديد عندما كنت أسير في شارع لاتروب أندب حظي العاثر وقدري الذي جعلني لا أمُلك شيئاً من حُطام هذه الدنيا، وليس لدي أي شيء أنطلق من أجله في هذه الحياة، لا زوجة، ولا أولاد، ولا بيت، ولا وظيفة، ولا أصدقاء. كنت أشعر بالوضاعة والإحباط على سوء حظي وأنا لم أكمل بعد الثالثة والعشرين من عمري. لقد جئت إلى ملبورن أتطلع إلى حياة أفضل وعمل مستقر وربما في أحد الأيام أمتلك مزرعة متواضعة في الريف. وفجأة مرّ بي رجل نصف مخمور، يرتدي حُلة زاهية، فقررت أن أتبعه، إنها فرصة العمر ولا بد لي أن اغتنمها، هكذا حدثتني نفسي الأمارة بالسوء. وفيما أخذت أسير خلف الرجل في ذلك الشارع المظلم بدأت أفكر، لا بد أنه يحمل مالاً في جيبه، ولا شك أنه في طريقه إلى منزله الجميل، والذي توجد فيه وجبة دافئة واستقبال حار من قِبل زوجة وأولاد. إن هذا الرجل يملك كل شيء، بينما لا أملك شيئاً سوى ثيابٌ بالية خاوية الجيوب بالكاد تغطي جسدي الهزيل. عقدت العزم على سلب هذا الرجل. وقدّرت أنّ ذلك لن يؤثر عليه كثيراً ولن يسبب له أي أذيّة، فهو بلا شك يملك الكثير في حين أملك القليل… اقتربت أكثر وأكثر من الرجل، ثم هجمت عليه من الخلف. أطحت به أرضاً، وتوقعت أن المفاجأة لا بد شلته، وهو يرقد أمامي في رعب وصدمة. لكنه أخذ يقاوم بشدة، وخشيت أن تلفت الجلبة التي أخذ يحدثها الأنظار، فركلتُه وواصلت ركله بعنف حتى لفظ أنفاسه… يا إلهي لقد قتلت الرجل.
استبدّ بي الرُعب عندما أدركت فظاعة ما اغترفَته يداي من فعل آثم شنيع وجرم اقشعر له بدني. كنت قد خططت أن أسلُبه ماله فقط، وهاهو الآن يتحول إلى جثة هامدة أمام ناظري… لم تقو نفسي حتى على لمس جيبه. لطالما كنت أعتقد أن لمس رجل ميت مدعاة لجلب الحظ العاثر. لكن لاحظت أن ساعته المذهبة سقطت إلى جانبه، فالتقطتها وأطلقت ساقيّ للريح وقد امتلأت رعباً، لكن بينما كنت أجري أخذت أشعر بالغضب… قتلت الرجل من أجل ساعة يد عديمة القيمة! إنني لا أستطيع أكل الساعة، ولا أستطيع بيعها في تلك الليلة من أجل الحصول على طعام أو شراب أو مأوى. هذا إلى جانب إنني أدركت فجأة إنها قد تربطني بجريمة القتل النكراء هذه، فما كان مني إلا أن رميتها وواصلت الركض. في وقت متأخر من تلك الليلة تفضل مزارع كان يقصد مدينة غيلونغ باصطحابي معه في جراره. كان المزارع كريماً اقتسم معي بعض البطاطا المقلية. وأخبرني عن رجل كان في حاجة إلى عمال لتسوير مزرعته، فحصلت في اليوم التالي على العمل وأنا أكاد أموت تعباً وجوعاً.
انقضى أسبوع قبل أن أسمع في الأخبار عن جريمة القتل. وقرأت في الصحف أن الشرطة تمكنت من اعتقال رجل يدعى جيم هاميلتون، يُعتقد أنه القاتل. كان جيم هاميلتون هذا رجلاً فقيراً، يعمل في مزرعة صغيرة ولديه زوجة وأطفال. وقد حُدد موعد محاكمته الأسبوع القادم.
لا شك أنني أسفت لجيم هامليتون، لكن الأمر لم يشكل هاجساً كبيراً بالنسبة لي، لأنني كنت أدرك أنه برئ، ومن المؤكد إن المحكمة ستبرئه. ومن ثم ستتركه يذهب إلى حال سبيله. ولسوف يحققون معه وسيجدون أنه برئ، لأنني أقسم بالله أنه لا يوجد أي دليل ضده. فهو لا يحتاج إلا إلى شهادة مني لإنقاذه من حكم مؤكد، لكني ربما ارتكب خطئاً ما فأتورط بدلاً عنه ويُزجُ بي في السجن. لا … لا لن أفعل ذلك… لقد بدأت للتو أزاول عملاً ثابتاً وحصلت على مأوى دافئ، سيكون من العار والغباء أن أدمّر حياتي في غياهب السجون، وهي الحياة الجديدة التي ولدت للتو.
صحيح إنني شعرت بالندم والأسف لقتلي ذلك الرجل الثري، لكن مهما فعلت فأنا لن أعيده للحياة مرة أخرى، ولا يستطيع أحد غيري فعل ذلك. لذلك أبقيت فمي مغلقاً… وأخذت أترقب سير المحاكمة وما ستسفر عنه. وحسبما تناقلته الصحف فقد أخبر جيم هاميلتون البريء المحكمة أنه كان يتمشى في شارع لاتروب في وقت متأخر من تلك الليلة، فرأى ساعة يد مذهبة على قارعة الطريق، التقطها ثم واصل سيره فمر برجل مسجى على الأرض… فانحنى يتفحصه ليعرف ما إذا كان ما يزال حياً أم ميتاً، كان يريد تقديم المساعدة. كان الرجل ثقيل جداً لم يقوى على تحريكه فصاح النجدة! النجدة! هل من أحد يساعدني؟. هب إليه بعض الجيران يهرولون، وعندما جاء الشرطي وفتش جيم هاميلتون عثر على ساعة اليد المسروقة في جيبه. فاقتادوه إلى المخفر واتهموه بجريمة القتل.
توصلت المحكمة إلى أن جيم هاميلتون مذنباً وحُكم عليه بالإعدام. وفي أول يوم سمعت فيه هذه الأخبار واسيت نفسي وقلت مبرراً لست من يجب أن يثبت أن جيم هاميلتون كان بريئاً. فقد وجدته المحكمة مذنباً، لست من سينزل به العقاب، بل المحكمة هي التي ستقوم بذلك. لكني لم أتحمل مشاعر الرعب التي ملأت قلبي، رجل برئ سيُقتل من أجل جرم اغترفته أنا، يا للهول. قررت أن أتقدم للمحكمة وأقول إنني شهدت الجريمة ورأيت عصابة تقتل السيد غارنيت. وهكذا عقدت العزم للسفر إلى ملبورن لتقديم إفادتي. وعندما وصلت بلدة فوتسكراي الغربية سمعت الأخبار، فقد شنق جيم هاملتون في صبيحة ذلك اليوم، فعدت إلى البيت.
ذلك كل ما حدث قبل ست وثلاثين عاماً، ولم أخبر أحداً قط طوال تلك المدة. لا زوجتي ولا أولادي ولا القِس، فهذا السر قد بقي بيني وبين ربي. والآن هاأنذا ذاهب لمقابلة ربّي في غضون ساعات أو قُل أيام، فقد أصاب جسدي البِلى. أريد أن يعرف الناس وخاصة عائلة جيم هاميلتون أن هاميلتون كان بريئاً… وأنا من قتله. أقول قولي هذا والله شهيد على ذلك.
التوقيع: غوردون روشيستر.
سيدي المحرر، يمكنك أن تستنتج من فحوى هذا الاعتراف أن جدي يريد نشر هذا الاعتراف على الملأ. لذلك أرغب في العثور على أحفاد جيم هاميلتون محاولاً قدر المستطاع تصحيح هذا الخطأ الفادح من قِبل العدالة والاعتذار لهم. هلا تفضلتم بنشر هذه الرسالة، حتى يتسنّى لي في آخر الأمر الاتصال بأحفاده.
المخلص، كارل روشيستر.
التاريخ 2 يوليو 1989م
عزيزي كارل روشيستر
لقد اطلعنا على صورة الرسالة التي أرسلتها لنا وهي مثيرة للاهتمام، لكننا لن نتمكن من نشر هذا الاعتراف بصورته الحالية. إذ من أين لنا أن نعرف أن ما جاء في هذه الرسالة صحيح؟ وكيف نعرف أنك لم تختلق هذه القصة؟ يجب أن يكون هناك دليل داعم قبل حتى مجرد التفكير في نشرها. إضافة إلى بعض الاعتبارات الأخرى.
المخلص، جاك كومبس، المحرر
14 سبتمبر 1989م
عزيزي/ السيد جاك كومبس
بهذا أود أن أحيطكم علماً بأنني كنت مشغولاً جداً خلال الشهور القليلة الماضية. لقد بحثت بين مئات المدونات والصحف القديمة من أجل العثور على دليل يدعم الرسالة التي أمامكم، تجدون مرفقا الآتي:
1- وثيقة الاعتراف الأصلية على سرير الموت. بإمكانكم إجراء اختبار معملي عليها للتحقق من عمر الوثيقة.
2- قصاصة الصحيفة التي تبيّن التقرير الكامل لمقتل السيد غارنيت وتفاصيل محاكمة جيم هاميلتون. وستلاحظون أنّ التقرير يشير إلى زوجة وأولاد السيد جيم هاميلتون. وهذا يعني أن له أقارب.
3- تجدون أيضاً توثيقاً لعملية الشنق كما وُصفت في الصحيفة وقد نُشرت تحت عنوان: (الحشود تتدافع وتهتف لموت قاتل أثيم) وإذا تحققتم من تاريخ الصحيفة ستجدون أنها صدرت قبل مائة عام تقريباً، وأنا متأكد وأثق تماماً من أن الحبر وأسلوب الكتابة غير زائف. أرجو منكم مراجعة كل ذلك ومن ثمّ نشر هذه الرسالة لأن هذا سيزيل عني الإحساس بالخِزي الذي تلطخت به سمعة أسرتي.
المخلص، كارل روشيستر
مجلة اوستون الشهرية
29 سبتمبر 1989م
عزيزي السيد/ كارل روشيستر
لقد أولينا رسالتك الأخيرة اهتماماً بالغاً، إذ يبدو أننا حصلنا أخيراً على دليل كافٍ يمكّنُّنا من نشر اعتراف قريبك. إن خطوتنا التالية هي إرسال مراسلنا إلى مقاطعة غيلنغ للتحري عن مزيد من التفاصيل بشأن المكان الذي عاش فيه. وسيقوم مراسلنا بإجراء بعض التحقيقات عسى ولعل أن يعثر على المزيد من المعلومات عن غوردون روشيستر. إن الأمور تبدو مبشرّة، وربما سنتمكن من نشر الاعتراف في غضون شهرين.
المخلص، جاك كومبيز، المحرر
4 نوفمبر 1989
إلى جاك كومبيز
عزيزي جاك،
لقد مرّ شهران حتى الآن دون أن أتلقى أي كلمة من قبلكم. ما الذي حدث بشأن مراسلكم الذي يفترض أنه سيجري عملية التحقق؟ هل ستمضون قُدماً في عملية نشر رسالة الاعتراف؟ إنه أمر خطير وجدِّي يتعلق بحياة عدد من الناس. أرجو منكم أن تُولوه أقصى اهتمامكم.
المخلص، كارل روشيستر
إلى السيد/ كارل روشيستر
بهذا نقدِّم لك اعتذارنا العميق عن التأخير في الكتابة إليك. لقد كنا مشغولين جداً في الآونة الأخيرة. لذلك لم نستطع معالجة الموضوع حتى الآن. لقد ذهب المراسل إلى مقاطعة رانغفيلي، بالقرب من غيلونغ، وأجرى تحقيقاً مكثفاً بخصوص حياة غوردون روشيستر. ووجد أن كل الأدلة التي سبق أن قدمتها لنا حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ذلك نأسف لعدم تمكننا من المُضي قُدماً في نشر الاعتراف.
كان غوردون روشيستر رجلاً مُجدّاً في عمله. وقد وهب كل شيء لمدينته قبل وفاته. وفي الواقع هناك قدر كبير من المال ما يزال مُودعاً لصالح تمويل المنح التعليمية ومن أجل دعم الفرق الرياضية. ويتم دفع المصاريف الجامعية لعشر طلاب محليين سنوياً من ريع ممتلكاته. وتحمل قاعة المدينة اسم روشيستر، وكذلك كلية الفنون، والشارع الرئيسي يطلق عليه جادة روشيستر. وقد سُميت الحدائق العامة والقاعات العامة والنصب التذكارية باسمه تخليداً لذكراه. إن سلالة السيد روشيستر الحقيقيين يعتبرون كلهم من الرجال النيّرين والعُقلاء الأكثر نُبلاً.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد أي واحد من آل روشيستر يعيش في المقاطعة، كما تعلم، فإن الاسم روشيستر يُعد جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المدينة، وإنّ أي محاولة مهما صُغُرت لتشويه سمعته ستُعد انتهاكاً صارخاً لقدسية هذا الاسم الجليل. لقد أرسل لنا المجلس مُحذراً من مغبّة نشر هذا الاعتراف، وأنه في حالة قيامنا بنشره فإن المجلس سيقاضينا.
لذلك إلتمسنا المشورة القانونية بشأن هذا الموضوع، ونُصحنا بألا نمضي قُدماً في أمر النشر. وأُقدِّم لك أسفنا البالغ لنقل هذه الأخبار المُحزِنة إليك. إنّ هذه الجريمة وعملية الشنق التي أعقبتها حدثت قبل زمن طويل، وليس هناك خير ولا فائدة تُرجى من تقليب المواجع. لماذا لا تنسى الموضوع برمته؟ شاكرين ومقدرين أحاسيسك النبيلة والمُرهفة.
المخلص، جاك كومبيز، المحرر
21 شارع راكسين
رانغفيلي، فيكتوريا
2 ديسمبر 1989م
عزيزي الأب كابيل
أنا المدعو كارل روشيستر، لقد حاولت تتبع أثر أحفاد السيد جيم هاميلتون. وأخبرتني السيدة لورانس أن جدّك يعرف العائلة معرفة تامة على مدى سنوات عديدة. هلا تكرّمت باطلاعي على أي شيء تعرفونه عن هذه العائلة، من المهم جداً بالنسبة لي إيجاد طريقة ما للاتصال بهؤلاء الأحفاد.
المخلص، كارل روشيستر
14 يناير 1990م
عزيزي السيد روشيستر، لقد عاش وعمل كل من جدي ووالدي كقسيسين في هذه المقاطعة لفترة تسعين عاماً تقريباً. إنّ العائلة التي ذكرتها (هاميلتون) كانت معروفة جداً بالنسبة لهما. لقد بحثت في مذكرات العمل الخاصة بوالدي والتي تم حفظها عندما كان قِساً.
كانت القصة تبدو محزنة إلى حد ما. وكما تعلم فإن جيم هاميلتون كان قد شُنق بسبب جريمة قتل السيد غارنيت. لقد تربّي أولاده في جو مسمم بالشعور بالذنب والكراهية. لقد كان أهل البلدة في غاية الورع في تلك الأيام، وشعروا بأن أولاده الخمسة قد نبتوا من بذرة سيئة، وأنّ خطايا الوالد لا بد ستظلل حياة الأولاد حتى الجيل الثالث أو الرابع.
لا أحد كان يثق في الأولاد، كان الجميع يعاملونهم كمجرمين مُدانين بجريرة جريمة والدهم. وعندما كُبر الأولاد، حقّقوا ما توقعه أهل البلدة منهم، إذ بدءوا بممارسة بعض الجرائم الصغيرة، ثم انغمسوا في إدمان الخمر وممارسة العنف. وعندما بلغ كل واحد منهم العشرين، أُرسلوا الواحد تلو الآخر إلى غياهب السجون.
أما البنتان فقد بُليتا بحثالة البلدة، وانتهتا في آخر الأمر بإنجاب سلسلة من الأولاد غير الشرعيين. (يجب أن اعترف إنني لا أحب هذا الوصف، فليس الأطفال هم الغير شرعيين بل نظام الزواج في ذلك الوقت هو الغير شرعي).
وفي نهاية الأمر أصبحت البنتين عاهرتين مشهورتين، ربيتا أولادهما في جو الجريمة والسرقة والإدمان على الخمر. وكان يوصمهم سكان البلدة بأنهم: نبتوا من بذرة سيئة. في رحم عاهرتين، وجَدهما قاتل مجنون شُنق بسبب جرائمه. وهكذا تبعثرت كل العائلة في نهاية الأمر… وقد فُقد نسبهم واختلط مثل آبائهم تماماً. وكل الذي عُرف عن العائلة لم يتعد مُقتطف صغير نُشر في الصحيفة المحلية في عام 1932.
عائلة القتلة
آخر قريب معروف للقاتل جيم هاميلتون سيئ السمعة، السيد غاري هاميلتون، 43 سنة، وُجد مقتولاً في زنزانته. صرّح بذلك رقيب شرطة غودسون لصفحة أخبار الأسبوع، يُذكر أنّ غاري هاميلتون كان قد أُتهم بقتل رجل آخر بعد شجار نشب بينهما بسبب زجاجة جِعّة. كانت العائلة تعيش في المقاطعة لسنوات عديدة، واشتهر أفرادها كمجرمين خطرين وقتلة. وقد علّق واحد من المزارعين المحليين قائلاً: إن كل أفراد عائلة هاملتون سيئين. انحدروا من صلب رجل قاتل وحِشي، وتربّوا على الخطيئة، وكل واحد من الأسرة كان سيئاً. وكان أهل البلدة يتحاشونهم دائماً، ولا أعتقد إن أي شخص سيشارك في تشييع الجنازة.
25 يناير، 1990م
عزيزي جاك كومبيز، المحرر
أناشدكم إعادة النظر بشأن موضوع نشر الاعتراف حتى ولو مقالة مقتضبة عنه. أريد أن أضع الأمور في نصابها الصحيح، ليس فقط من أجل العائلة، بل من أجلنا جميعاً. أعلم أن من المستحيل تصحيح الظلم والتحامل والكُره الذي تسبّب في قدر كبير من الضرر. ما زلت أصر على الوصول إلى أحفاد جيم هاميلتون أينما كانوا. أرجوكم أنا في حاجة لمن يقوم بنشر هذه القصة في مجلة كبيرة كمجلتكم.
أريد أن يعلم أحفاده الذين ما يزالون على قيد الحياة أنهم لا يرثون الشر، حتى لا يستسلموا للانغماس في الجريمة والقنوط. أريد أن يعرف الكل أن المرء يجب أن يرضى بماضيه. لأن عائلتي لها بذرة شر لأننا لا نعلم ولأن أهل البلدة لا يعلمون أن أهل روشيستر يتصرفون كمواطنين متمدنين يحبون عمل الخير.
ويبدو لي جلياً الآن، أننا في كثير من الأحيان نكون كما يتوقع لنا الآخرون أن نكون. فتتأثر إرادتنا الحرة وتتشكل حسبما نؤمن به، بغض النظر عن إلى أي مدى يُمكن أن تكون هذه المعتقدات خاطئة.
كارل روشيستر
قصاصة صحيفة:
ملبورن، في 2 فبراير لقد تعرض السيد جاك كومبيز محرر مجلة اوستون الشهرية إلى الضرب المبرح والركل في الرأس بعد أن سقط على الأرض خارج مكتبه. وقد تمّ إبلاغ الشرطة أن مهاجمه هو السيد كارل روشيستر، يُذكر أن هذا الأخير استشاط غضباً أثناء نقاش مع المرحوم حول رفضه نشر سلسلة من الرسائل كان المتهم يطالبه بنشرها. وفي وقت لاحق من مساء ذلك اليوم، اعتقلت الشرطة كارل روشيستر، وعندما توفي جاك كومبيز في المستشفى متأثراً بجراحه، أُتُّهم كارل روشيستر بقتله.
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق